في التفاوض تحت الماء
كتب القاضي زياد شبيب في جريدة النهار
مقابلات عاموس هوكشتاين على الشاشات اللبنانية أظهرت كاريزما الرجل وأظهرت موضوعيته المفترضة. بدا حريصاً على مصلحة الشعب اللبناني في الاسراع باستخراج الغاز والخروج تالياً من الموت الذي نحن فيه. وتحدث بواقعية عندما قال بأن دول شرق المتوسط جميعاً دخلت مرحلة استخراج الغاز ما عدا لبنان وأن التأخير هنا سيفقدنا فرصة استثمار ثرواتنا في مرحلة التحول السائرة باتجاه اعتماد الطاقة البديلة. حتى أنه نصحنا باعتماد التنوع في مصادر الطاقة، وعندنا كما قال، وقوله صحيح، كل مقوماتها الطبيعية من رياح وأشعة شمس.
ما لم يقله هوكشتاين، ولن يجرؤ حكامنا على قوله، أن اسرائيل حققت إنجازاتٍ تاريخية هي:
أولاً، بتوقيعه اتفاق إطار التفاوض سنة 2020 وافق لبنان على المطلب الإسرائيلي باعتماد التفاوض بدلًا من القانون. فالاتفاق المذكور لا يشير إلى أي مرجعية لمفاوضات الترسيم كقانون البحار لعام 1982، ما يجعلها خاضعة لموازين القوى والضغوط التي نراها تُمارس على لبنان، ولم يلحظ الاتفاق أي بديل في حال فشلت المفاوضات كالتوجه إلى التحكيم الدولي. وذلك حصل بالطبع لأن حجة إسرائيل القانونية ضعيفة، بينما حجة لبنان في ترسيم حدوده قوية لأنها تستند إلى قانون البحار. وهذا ما أكدته دراسات الخبراء، بما فيها الإسرائيلية.
ثانياً، في الاتفاق المذكور اعترف لبنان باسرائيل ضمنياً كدولة قائمة على أرض فلسطين، لأنه للمرة الاولى في تاريخ العلاقات والمفاوضات والحروب والانتصارات…، جرى الحديث عن الحدود بين لبنان وإسرائيل، وليس فلسطين. وللمصادفة بالأمس قرر المجلس المركزي الفلسطيني تعليق اعتراف منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية باسرائيل، ما يترتب عليه، قانوناً أو نظرياً، أن التفاوض على الحدود البحرية يجب أن يحصل مع الفلسطينيين.
اتفاقية الهدنة التي وقعت العام ١٩٤٩ بعد المعارك التي خاضها الجيش اللبناني في وجه الاحتلال والبطولات التي سطرها في معركة المجيدية، ورد فيها ذكر الحدود مع فلسطين وليس اسرائيل. فقد نصت اتفاقية الهدنة على أن “يتبع خط الهدنة الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين” (المادة الخامسة). والمقصود بالحدود الدولية الخط الذي تم الاتفاق عليه بين دولتي الانتداب، فرنسا عن الجانب اللبناني وبريطانيا عن الجانب الفلسطيني، سنة 1923. وتنازلت فيه فرنسا آنذاك عن القرى السبع وضمتها بريطانيا إلى فلسطين رغم كونها قرى لبنانية بالكامل. والثمن كان إعطاء الفرنسيين عقد تجفيف بعض المستنقعات في فلسطين. تلك الصفقة تذكرنا بزيارة الرئيس الفرنسي بُعَيْد انفجار 4 آب والتي اصطحب فيها الشركة التي ستحصل على عقد إعادة بناء واستثمار المرفأ.
ثالثاً، نجح هوكشتاين بتسويق فكرته الذكية بالتركيز على ما تحت الماء أي على الحقول القابلة للاستثمار بدلاً من خطوط الحدود. واعتماد هذه الفكرة يريح السلطات اللبنانية من واجب توقيع مرسوم تعديل الحدود البحرية لاعتماد الخط ٢٩. فالجدوى من ذلك تنتفي لأن التفاوض سيكون تحت الماء ومتركزاً على الحقول بدل الحدود.
المعركة مع العدو تحولت من معركة وجود الى قضية حدود. ويبدو أن مشروع إزالة اسرائيل من الوجود ورميها في البحر لم يعد قائماً. واليوم مع المبادرة الاخيرة للسيد هوكشتاين لم تعد قضية الحدود البحرية مطروحة ولم يجرؤ لبنان على توقيع مرسوم تحديد حدوده كما يضمنه القانون الدولي.
مع كل جولة مفاوضات أو زيارة للوسيط الأميركي يسجل لبنان تراجعاً إضافياً. نأمل أن تنتهي هذه المفاوضات والتنازلات بأقل خسائر ممكنة.
يبدو أن التنازل لا يعتبر خيانةً متى كان تنازلاً جماعياً.