هل يطرح هوكشتاين العودة الى الخط 23 توصّلاً الى اتفاق سريع وبدء الاستفادة من الثروة النفطيّة؟لماذا لدى كلّ من المعنيين “خريطة حصريّة”.. ولمَ لا يتمّ تنسيق واسع لرسمها على ما فعل البطريرك حويّك؟

كتبت دوللي بشعلاني في جريدة “الديار”
يعود الوسيط الأميركي في المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البحرية الى لبنان الأسبوع المقبل، في جولته المكّوكية الثانية في المنطقة، وسط سيناريو يتحدّث عن الربط بين ملف ترسيم الحدود مع العدو الإسرائيلي، بمسألة استجرار الغاز والطاقة من مصر والأردن عبر سوريا الذي طرحته السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا لحلّ مشكلة الكهرباء في لبنان، علماً بأنّه مشروع كان مطروحا أساساً منذ سنوات عدّة، لاستثناء الدول المعنية ولبنان من عقوبات “قانون قيصر” الذي يُحاصر سوريا، من دون الإعتراف بأي تنازل أميركي.
كما يأتي وسط سيناريو آخر يشير الى أنّ عودة هوكشتاين ستنحصر في إيجاد حلّ للمنطقة المتنازع عليها في السابق (أي المثلث البحري بمساحة 860 كلم2).فقد أقنع الجانب اللبناني بالعودة الى النقطة 23 المودعة لدى الأمم المتحدة في المرسوم 6433، وليس الى النقطة 29 التي فاوض على أساسها على طاولة الناقورة، سيما وأنّه لم يُعدّل المرسوم المذكور ليشملها، لصعوبة طرح تقاسم الحقول النفطية من جهة، ولأنّ الخط 29 من شأنه أن يُخسّر لبنان والعدو،من وجهة نظره طبعاً، الكثير ممّا يطمحان إليه في منطقة النزاع. فيما المهم هو إيجاد حلّ يتمّ التوافق عليه من قبل الأطراف الثلاثة المعنية لبدء الإستفادة من الكمّ الهائل من تريليونات النفط والغاز الموجودة في المنطقة البحرية، وتحسين الوضع الإقتصادي في لبنان.
أوساط ديبلوماسية متابعة لملف ترسيم الحدود البحرية والبريّة بين لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلّة، تعتبر أنّ ترسيم الحدود البحرية مهمّ جدّاً لدرجة أنّه يتطلّب جهداً جماعياً وتنسيقاً وتبادلاً للمعلومات، ولهذا على اللبنانيين ألّا يكونوا بلا هوادة في مطالبهم فيما يتعلّق بالتمسّك بالخط 29، بل عليهم الإستمرار والإصرار على ما فاوض على أساسه الوفد العسكري اللبناني على طاولة الناقورة، وليس العودة الى الخط 23.
ولفتت الأوساط نفسها الى أنّها لاحظت بأنّ هوكشتاين طلب من “الإسرائيليين” أن “يتكيّفوا”، أي أن “يُبدوا بعض المرونة”، ليس كرمى لعيون اللبنانيين ومصلحتهم، بل لأنّه على عِلم بوجود “الخريطة الإسرائيلية” التي ترسم “الخط الأحمر” الذي يذهب أبعد من النقطة 29، ما يؤكّد حقّ لبنان في مساحة الـ 2290 كلم2 وأكثر والتي تتخطّى بطبيعة الحال الخط 23 الذي يريد العودة إليه بالإستناد الى المرسوم 6433 المودع من قبل الحكومة اللبنانية لدى الأمم المتحدة (حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في العام 2011). وترى الاوساط بأنّ الأطراف المعنية في لبنان، على ما يفعل الأميركيون و”الإسرائيليون”، يريدون أيضاً تجاهل وجود هذه الخريطة لأنّها لم تنبثق عنهم شخصياً، ولأنّها تكشف أنّهم لم يؤدّوا “واجباتهم” بشكل صحيح. فهم يرغبون بـ “رخصة حصرية” للتفاوض مع الأميركيين، فيما يطلب منهم الأميركيون و”الإسرائيليون” عدم إثارة موضوع هذه الخريطة وعدم وضعها في التداول.
وبرأي الاوساط، إنّ الجانب اللبناني يريد الإعتماد فقط على تقرير الرسم البياني المائي البريطاني، ما يعني بأنّه يريد “البقاء في اللعبة” ضمن الإطار الذي وضعته القوى العظمى دون استفزازات متأخّرة، ولكن عليه الإستفسار والتحقيق أكثر في الموضوع.
وأوضحت الاوساط أنّه عندما رُسّمت حدود لبنان الكبير بين عامي 1919 و1920، دعا البطريرك الماروني يوسف حويّك آنذاك ضمن الوفد اللبناني الثاني أمام مؤتمر الصلح في باريس الى اعتماد خريطة الأركان الفرنسية الصادرة في العام 1862. فهل أرسل البطريرك وفداً من الخبراء الجغرافيين ليقوموا بمسح الحدود ورسمها على خريطة؟ طبعاً لا. لكن الذين قاموا برسم الخريطة هم الفرنسيون، وقد تطلّب هذا الأمر تعاوناً وتنسيقاً بين مجموعة كبيرة جدّاً من الجهاز الكولونيالي الفرنسي: رئاسة أركان الجيش والخبراء الجغرافيين، ووزارة الحربية، وضبّاط المساحة، ووزارة الخارجية، والقناصل في بيروت، ودمشق واسطنبول، والمستشرقون المختصّون بتاريخ المنطقة، وغرف تجارة المرافىء الواقعة على البحر المتوسّط، ولائحة المسؤولين الفرنسيين الذين عملوا على حدود خريطة الأركان الفرنسية ولبنان الكبير مثل رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة وأعضاء لجنتي الشؤون الخارجية في مجلسي النوّاب والشيوخ الفرنسيين إلخ… أي أنّ خريطة البطريرك حويّك قدّمها هو لوحده، ولكنّها كانت نتاج عمل المئات من الخبراء والمتخصصين الفرنسيين.
وترى الأوساط عينها بأنّ اليوم يقع اللبنانيون في المحظور نفسه، فتقوم كلّ جهة، مع الإحترام لكلّ منها على مقامها ودورها في الدولة، بالتفاوض بشكل آحادي، وتتقدّم كلّ منها، خلال المحادثات وبشكل منفصل بـ “خريطة” تُحدّد الخطوط البحرية. فلو كان الموقف اللبناني موحّداً، على ما يرى البعض، فلماذا يلتقي الوسيط الأميركي خلال جولاته المكّوكية بجميع الأطراف ليكوّن فكرة شاملة عن الموقف اللبناني، بدلاً من أن يلتقي طرفاً واحداً، أو مرجعاً واحداً، هو رئيس الجمهورية ميشال عون، على سبيل المثال، الذي يُمسك بهذا الملف، بعد أن وضع رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي “إتفاق الإطار” له؟!
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف رسم كلّ طرف معني بالمحادثات مع الوسيط الأميركي “خريطته”، وهل يكفي الإعتماد على عدد صغير من الخبراء والمحامين والمسّاحين الجغرافيين الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليدّ الواحدة لرسمها؟ وتقول الاوساط بأنّ الوفد العسكري المُفاوض باسم لبنان اعتمد على التقرير البريطاني الهيدروكارتوغرافي خلال المفاوضات غير المباشرة، رغم أنّ مضمونه بقي طيّ الكتمان، ولم يوضع على طاولة مجلس الوزراء آنذاك (في العام 2011)، رغم أنّه كلّف مبلغاً كبيراً من المال، ولا أحد بالتالي يريد نشره وإطلاع الشعب اللبناني عليه. كما أنّ المفاوضات مع العدو الإسرائيلي وبوساطة أميركية تجري بتكتّم شديد، ومن تحت الطاولة أحياناً، فيما الحوار الوطني الوحيد حول مسألة الحدود البحرية والحفاظ على حقوق لبنان في المنطقة الإقتصادية الخالصة، يجري فقط في وسائل الإعلام.
وأشارت الأوساط عينها الى أنّه صحيح أنّ البطريرك حويّك تقدّم بخريطته منفرداً الى عصبة الأمم في حينه، ولكن هذا لا يعني بأن يتقدّم كلّ من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النوّاب ورئيس الحكومة والجيش اللبناني، مع احترامنا للجميع، بخريطته منفرداً، سيما وأنّ خريطة البطريرك حويّك كانت نتاج عمل المئات من المتخصّصين الفرنسيين. ولهذا، نحن اليوم في رسم الخريطة البحرية نحتاج أيضاً الى عمل وتنسيق واسع بين أجهزة الدولة والخبراء والقانونيين والأكاديميين ترفد الوفد المُفاوض، أيّاً كانت تشكيلته، بالمعطيات والوثائق المدعّمة بالقوانين والخرائط الموثوقة، وأن يكون الرأي العام اللبناني مطّلعاً أول بأول على مجريات المفاوضات الجارية، كون الثروة النفطية البحرية تتعلّق بهذا الشعب وبحقوق أبنائه، لا أن يُصار الى قبول ما يُحاول الوسيط الأميركي (أو “الإسرائيليون”) فرضه على لبنان، على أنّه “خيار لا بديل عنه”، كونه مستعجلاً ويريد إنهاء ملف الترسيم في آذار المقبل، وإلّا سينسحب من هذه المهمّة.
وذكرت الاوساط بأنّه من المقدّر لهذه المفاوضات أن تستغرق سنوات عدّة، في حال فشل هوكشتاين في إنهائها سريعاً، ما يعني تبدّل بعض الوجوه السياسية، ولهذا يُفترض أن تحصل بشفافية وفوق الطاولة بدلاً من التكتّم الشديد على مجرياتها، أو إجراء مفاوضات جانبية وبشكل منفرد. فالفرنسيون عندما رسموا خريطة لبنان الكبير كانوا متكتّمين مع اللبنانيين، غير أنّهم بين بعضهم البعض كانوا يتبادلون المعلومات والخرائط، ولهذا أتت الخريطة نتاج تعاون مروحة واسعة من المسؤولين والمختصّين والخبراء.
وتساءلت الاساط في الوقت نفسه، بأنّه إذا لم يكن هناك إجماع لبناني على النقطة 29، فلماذا فاوض الوفد اللبناني على أساسها على طاولة الناقورة، ما جعل الوسيط الأميركي و”الإسرائيليون” يتهمون لبنان بتغيير موقفه، ما أحرج لبنان والوفد العسكري؟! وهل حصل تنازل ما من قبل لبنان، رغم المواقف المعلنة بشكل استمرار على أنّه “لا تفريط بأي نقطة من مياه لبنان الإقليمية”، لكي يتمّ الترويج الى أنّ هوكشتاين سيُطالب لبنان في زيارته المرتقبة الأسبوع المقبل، بعدم طرح أي “مطالب جديدة” بل بالعودة الى استكمال المفاوضات انطلاقاً ممّا كان عليه التفاوض في الفترة السابقة أي من الخط 23، واعتبار المنطقة المتنازع عليها فقط هي مساحة 860 كلم2، وليس مساحة الـ 2290 كلم2 التي اعتمدها الوفد إستناداً الى التقرير البريطاني الذي حدّد حدود لبنان بالنقطة 29، أي بإضافة مساحة 1430 كلم2 الى المثلث البحري المتنازع عليه؟!
وبرأي الاوساط، إنّ البعض يُخطىء عندما يقول بأنّ مسألة ترسيم الحدود هي مجرّد عملية تقنية بسيطة يُمكن أن يجريها عدد صغير من الخبراء، لأنّ مسألة الترسيم شديدة التعقيد واستراتيجية ومصيرية وتتعلّق بحقوق لبنان في ثروته النفطية والبحرية، ولهذا يحتاج لبنان الى مقاربة وطنية أوسع واشمل ممّا يجري حالياً، وتنسيق عالي المستوى بين مختلف المكوّنات اللبنانية، وإلّا فنحن سنصل حتماً الى نتيجة خاسرة ستلومنا عليها الأجيال المقبلة.